لماذا نحب؟
  • Posted on

لماذا نحب؟

الحب.. هذه الكلمة المرتبطة بالروح، والمفعمة بالتألق، أوجدها الله في كل القلوب الإنسانية، وبغير هذا الحب لن يستطيع الإنسان الحياة، والتعايش مع الناس والذوبان في محيطهم.والحب في معناه العام يشمل كل المظاهر الطبيعية من حب الخير، والجمال، وما يعجُّ به الكون من تناغم جميل في البيئة الأرضية، فالعصافير تغني حبّاً والأشجار في حركاتها وسكونها تنبت عطاء للحب والبقاء، حتى الحيوانات الأليفة ترتبط بالإنسان من خلال الحب المتبادل بينها وبينه.لقد طغت على زمننا هذا دوافع الكراهية، وافتقدنا ذلك الحب الروحاني، وحتى مدعو الحب والعشق لم يعد يجري في عروقهم ذلك الإخلاص، ففقد الحب عفافه، ورقّته، ومعانيه الجميلة، وضاع بين أروقة الخداع ولصوصية الشباب من الجنسين، ودناءة الهدف، وثورة المراهقة التي لم تعد مقتصرة على الشباب بل تجاوزتها إلى المراهقين الكبار الذين يبحثون عن فرصة يستعيدون فيها شبابهم فيشترون الصغيرات ومن هن في سن بناتهم ليتزوجوا منهن بلا حب، فقط ليشبعوا غرائزهم، دون مبالاة بمشاعر الطرف الآخر، ومن هنا تنمو الكراهية، ويستبد الكره، ويبرز العنف، وتتسيّد القسوة، وينطفئ العمر. الحب إحساس روحاني يأتي بلا موعد، بلا استئذان، وأحياناً يأتي بلا وقت، أقصد أن الحب لا يرتبط حتى بعامل العمر متى ما كان متبادلاً بين الطرفين، فالحب ليس اختياراً بقدر ما هو قضاء، والإنسان لا يختار من يحب، فنحن لا نستطيع مثلاً أن نتخيل إنساناً معيناً وبمواصفات معينة لكي نحبه، ولو كان الحب اختياراً لاختار الإنسان لنفسه أجمل الناس خلقاً، وشكلاً، ووفاء، ولكن الحب يأتي من الله فيجد الإنسان نفسه مشدوداً لإنسان "ما" فيترقب حضوره، ورؤية وجهه، في كل ثانية دون أن يعرف لذلك سبباً، ودون أن يفكر، أو يمر في خاطره، أنه سيحب هذا الإنسان، ومن هنا أرى أن شاعرنا الأمير بدر بن عبدالمحسن أبرع من صور هذه الحالة إذ يقول: تصدقي ما اخترت انا احبك***ما حد يحب اللي يبيفالحب وقوع جميل، لا يرتطم فيه الإنسان بالأرض أو بالأشياء بقدر ما يلتصق قلبه بالشخص، يقول الإمام ابن حزم الأندلسي الفقيه والمؤرخ والفيلسوف، صاحب كتاب "طوق الحمامة": "لا الحب منكر في الديانة، ولا هو محظور في الشريعة، إذ إن القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، وللحب علامات يهتدي إليها الذكي، أولها إدمان النظر، والعين هي باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها والمعرِبة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب، ويميل معه حيث مال، ويقول وهناك علامات متضادة، وهذه قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام، فهذا الثلج إذا طال حبسه في اليد فعلَ فعل النار، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة تضادّا في القول تعمّداً، وتتبع كل لفظة تقع من صاحبه، يؤلها على غير معناها، والفرق بين هذا والمضادة المتولدة عن الشحناء، سرعة الرضا، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، ومن علامات الحب أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب ويستلذ الكلام في أخباره، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهي المحب عن ذلك تخوف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر".كتب ابن حزم كتابه هذا عن الحب وهو الفقيه العالم المشهور الموسوعي، ويعتبر كتابه "طوق الحمامة" سيرة ذاتيه له، ما يعني بطلان مقولة إن السيرة الذاتية فن جديد، أما الإمام الفقيه ابن قيم الجوزية صاحب كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، فهو يوافق الإمام ابن حزم في كثير مما ورد في كتابه بل ويأخذ منه، ثم يحدثك عن أسماء الحب، ويفسر معانيها، ويورد كثيراً من الأخبار عن الحب وقصصه وغيرته وعفته وصدقه، وهذا ما يعني لنا أن الفقهاء الأوائل، أوسع أفقاً، وأنضج فكراً، وأغزر ثقافة، فلا يترفعون على الحب، ولا ينكرونه، ولا يحرضون على الكراهية ولا يخرجون عن الفطرة السليمة. وهذا الحب لا يخضع لمعايير الجمال أو القبح، كما هو السر في حب "عبلة لعنترة"، فالرسالة هنا روحية تربط بين قلبين فينصهران من خلالها في بوتقة واحدة ترفعهما إلى عالم الروح بعيداً عن الجسد، الذي أصبح هو الهدف في زمننا هذا، أما كيف يأتي هذا الحب فهو قدر قد يأتي حتى من خلال النفور، أو الشجار، أو السباب، وهذا ما حدث مع "جميل وبثينة"، حيث كانت البداية معركة كلامية يؤكدها قوله: وأول ما قاد المودة بيننا***بوادي بغيض يا بثينَ سبابُوقلت لها قولاً وجاءت بمثله***لكل كلام يا بثين جوابفالحب إحساس سامٍ لا يكترث بالماديات سواء كانت جسدية أم اقتصادية، أم اجتماعية، وهو شعور عام يجعلك مشدوداً وميالاً لبعض الناس، دون أن تختلط بهم، أو حتى تعرفهم، وكذلك في حالة النفور.زينب غاصب