إيقاعات طقوس عالم الموت.. تقاليد عريقة متجذرة في المجتمع المكسيكي منذ حضارة الأزتك
  • Posted on

إيقاعات طقوس عالم الموت.. تقاليد عريقة متجذرة في المجتمع المكسيكي منذ حضارة الأزتك

تحظى المكسيك دون غيرها من باقي دول العالم بالعديد من الطقوس الفريدة لتشييع الموتى، وهو ما يؤكد العلاقة الوثيقة والمتجذرة بين الشعب المكسيكي والعالم الآخر. أحد أشهر هذه الطقوس يقام في ولاية فيراكروز وتؤديها قبائل السكان الأصليين التي تنتمي لعرقيات الزوكي والميخي، البوبولوكاس التي ترجع جذورها لحضارة الأولميكا، أقدم حضارات أمريكا الوسطى على الإطلاق. وتتمثل هذه الطقوس في مساعدة الأحياء لأمواتهم على الوصول إلى أبواب السماء من خلال الموسيقى والغناء والطعام والرقص وحتى المخلفات.بعد 21 يوما من رحيل المتوفي تبدأ طقوس الموت، وتبدو للوهلة الأولى كما لو كانت ذات طابع كاثوليكي ولكنها في الحقيقة تنتمي لعصر ما قبل اكتشاف كولمبس للعالم الجديد. الطريف في الأمر أنه في بعض المناطق تبدأ هذه الطقوس بعد 40 يوما من رحيل المتوفي، ويرجع البعض هذا لتأثير عمليات التنصير التي جرت بعد اكتشاف الأمريكتين.في حوار مع وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ ) قال المؤرخ وعالم الأنثربولوجيا الفريدو ديلجادو "يطلق عليها إيقاعات الموت، لأنها تصاحب روح المتوفي وتصل إلى 150 لحنا جنائزيا تعزف باستخدام آلات مثل الخارانا وهو جيتار خاص بمنطقة فيراكروز ذو ثمانية أوتار، وآلة الفيولين. وتبدأ مع منتصف الليل، وبالطبع لا تعزف كلها، بل بعض المقطوعات المختارة". يضيف أستاذ التاريخ المكسيكي "بعد تنصير العالم الجديد، أصبح الغرض من الإيقاعات الجنائزية مساعدة المتوفي على أن تفتح له أبواب الفردوس على يد القديس بطرس وفقا للمعتقد الكاثوليكي، ولكن الحقيقة وفقا للمعتقد السائد قديما هي أن روح المتوفي كان يصاحبها الإله هومشوك، معبود البوبولكا ورب الذرة، الذي خلق العالم في 21 يوما أثناء وجوده على الأرض ثم صعد للسماء".تختلف هذه الإيقاعات عن معزوفات "الخاروتشو" التي تنتمي للعصر الكولونيالي أي بعد اكتشاف العالم الجديد، وازدهرت في مناطق واخاكا، تباسكو وفيراكروز جنوب وشرق المكسيك. وقد سعت المكسيك عام 2014 لضم إيقاعات الخاروتشو إلى قائمة اليونسكو لتراث الإنسانية غير المادي، وتعتبر موسيقى مرحة راقصة تتناغم فيها الإيقاعات الوترية مع دقات الكعوب، وأفضل تعبير لها يتجسد من خلال رقصة الفاندانجو، التي يقام لها احتفال موسيقي سنوي يتضمن فعاليات غنائية وشعرية وراقصة تمتزج بها التأثيرات الإسبانية مع الهندية. على العكس من ذلك، تتسم إيقاعات الموتى والمختفين بالحزن والكآبة، وتتميز بخلفيتها الدينية، وتعزف وفقا للمهنة التي كان يحترفها الفقيد: إيقاع المانترايا للصيادين، وإيقاع الفرس للبحارة، والفاندانجو الحزين للنساء وإيقاع الأقزام على روح الأطفال. كانت شعوب المخيكا أو الازتيك، البوبولوكا والتولتيكا تعتقد أن روح المتوفي يجب أن تجتاز سبعة عوالم من الحياة الأخرى، منها غابة مليئة بالحيوانات، صحراء، وأنهار، وقد تم توثيق هذه المعتقدات في العصر الكولونيالي من خلال أعمال تشكيلية أنجزها فنانون من السكان الأصليين.في كتابه "الموت على حافة بركان" يوضح عالم الآثار إدواردو ماتوس موكتيزوما أنه "على غرار ما كان يجري في كافة المجتمعات، خلال فترة العصر السابق على اكتشاف كولمبس للعالم الجديد، كان الناس يرفضون فكرة موت الانسان. صحيح أنهم كانوا يدركون أنه مصير لا مفر منه وأن ساعته آتيه لا محالة، إلا لأنهم سعوا بمختلف الطرق لتجنبها من خلال ابتكار عوالم تمثل فرصا أخرى للحياة بعد الموت". يستعرض الكتاب بصورة معمقة العلاقة الراسخة بالغة القدم بين الشعب المكسيكي والحياة الأخرى بعد الموت. أما الطقس الذي اكتسب شهرة عالمية حول الموت فهو "يوم الموتى" والذي تحتفل به إسبانيا على أنه يوم كل القديسين، ويشبه عند المسلمين في مصر وبعض دول العالم العربي "مطلع شهر رجب"، فيما يعرف في الثقافة الأمريكية بعيد الهالويين. يحتفل المكسيكيون بيوم الموتى في شهر تشرين ثان/ نوفمبر، وقد اعترفت به اليونسكو عام 2008 جزءا من تراث الانسانية الثقافي.بحسب تحليل ماتوس موكتزوما في كتابه "تمثل إيقاعات الموتى والمختفين نظرة كونية للعالم الآخر، فعلى سبيل المثال عندما تعزف إيقاعات السحب، فهذا يعد إشارة إلى أن المتوفي يشعر بالعطش ويحتاج للمياه لأنه يعبر الآن الصحراء، أما إذا عزفت التشانجو فهذا لأنه يحتاج لأن يتسلح بالشجاعة لعبور غابة الوحوش، ... وهكذا. بطبيعة الحال أصل هذه الإيقاعات مجهول، ولكن توثيقها بدأ مع عمليات التوسع في بعثات التنصير لإحكام السيطرة على العالم الجديد بحلول القرن السابع عشر. وقد صمدت هذه المعزوفات كنتاج للموروث الشفهي الذي حفظ أجزاء كبيرة من تراث الأمريكتين قبل وصول الإسبان. بالرغم من ذلك يحذر المؤرخون وعلماء الأنثربولوجيا من مخاطر اندثار هذه التقاليد وانحصارها في مناطق محدودة للغاية كما بدأت تختفي شيئا فشيئا الآلات الموسيقية التي تعزف بها مع الأخذ في الاعتبار عواقب رحيل الموسيقيين أنفسهم واحدا وراء الآخر.يبدأ الطقس بقداس على روح المتوفي. ثم تقام مأدبة خاصة يتقاسمها الحضور، ثم يتم تجميع بعض متعلقات الفقيد مثل الأحذية القديمة والثياب، ويلقى بها في النهر، وما يتبقى من الاحتفالية، لا يتم اعتباره نفايات، بل الدليل على أن شيئ أدى الغرض منه على خير وجه.يقول البروفيسور ديلجادو "في نفس المكان تقدم قرابين على هيئة عظام خنزير صغير، تجنبا لحضور "الخونتشو" وهو قزم مطاطي يسكن الجبال، يقوم بشفط أمخاخ كل من خرجوا على القواعد". وكرس الباحث بالمعهد الوطني للأنثربولوجيا بالمكسيك أبحاثه لدراسة هذه الطقوس والموروثات الثقافية، كما نجح في تجميع إيقاعات الموتى والمفقودين على إسطوانة مدمجة صدرت عام 2000، تضم 23 مقطوعة موسيقية جنائزية تعبر عن هذه الطقوس.