الذي لم يمت في "عمر الشريف"!
  • Posted on

الذي لم يمت في "عمر الشريف"!

كنتُ أتساءل: هل كان الفنان الإنساني عمر الشريف يعرف أنه مريض بالزهايمر حين قام ببطولة الفيلم الفرنسي "نسيت أن أقول!" عام 2009م؛ والذي مثّل فيه دور رجل مسن مصاب بالزهايمر؟! وكان صرح مرة أنه مثل هذا الدور لشعوره بأنهم "غائبون عن العالم!"، هذا المرض الذي أصابه، كما صرح ابنه طارق في الصحافة العربية؛ وفي شهور قليلة بعد وفاة سيدة الشاشة العربية قضى على ذاكرة استمرت في العطاء 83 عاماً؛ ومن دون سابق إنذار؛ انسلّت من ذاكرته أزقة الإسكندرية وشوارعها التي ولد فيها، وأسماء الأصحاب والأفلام العالمية والعربية الناجحة والمدن الكثيرة التي سافر إليها وكلّ شيء؛ كما ينسلّ الماء من قبضة اليد دفعة واحدة؛ وفي ستة أشهر هي المسافة التي فصلت بين وفاته ووفاة زوجته السابقة التي تكبره بعام، والحبيبة التي لم يذكر سواها في كل حواراته ومسيرته السيدة القديرة "فاتن حمامة"؛ الاسم الوحيد الذي قاوم خربشة أظافر "الزهايمر" كما صرح ابنه طارق في الصحافة العربية، حيث كان يسأله خلال مرضه عن والدته دائماً ويتذكر حياته قبل انفصالهما .لن أقول أي فنان هو وقد وصل إلى العالمية؛ بل أي قلب كان يملكه "عمر الشريف" جعل من وفاة الإنسانة التي غيّر حياته على يديها من مسيحي كاثوليكي إلى مسلم؛ يقضي عليه؟! حتى إنه اختار بعد وفاتها البقاء وحيداً في مصحة لكبار السن في وطنه الذي استقر به بعد ترحال طويل؛ معتزلاً وشارداً وبعيداً عن كل تلك الأضواء التي بقيت تلاحقه سنوات عمره؛ وفيما نسي كل شيء تماماً بقيت "الحمامة" التي لم يتزوج بعدها رغم انفصاله عنها في مرحلة شبابه وكل الحسناوات في السينما العالمية اللاتي مثّلن معه كصوفيا لورين وباربرا ستريساند وكاترين دينوف وكلاوديا كاردينال وغيرهن؛ وأذكر ما صرح به مرة في إحدى حواراته التلفزيونية التي شاهدتها حين قال: "أحببت مرة وحدة في حياتي؛ وأتحدى أي أحد يقول إن هناك واحدة عشت معها ولو 24 ساعة؛ لأني ما عشت مع أي امرأة من بعد زوجتي أبداً".معروف أن الزهايمر كفيل بجعل من يصيب به ميتاً وهو حيّ يرزق؛ إنه يُميت كل شيء ولا يُبقي شيئاً للإنسان في ذاكرته؛ فهل يتصور أحد أن هذا المرض قادر على جعل المريض ينسى كيف يعيش؟ كيف يأكل؟ كيف يتبول؟ وكيف ينام؟ بل وكيف يشرب الماء رغم شعوره بالعطش الذي ينساه أيضاً؟ لكن عمر الشريف نسي كل شيء إلا "فاتن" التي سبقته إلى رحم الأرض بستة أشهر رحمهما الله. فيما يبدو صدقت "كوكو شانيل" مصممة الأزياء الفرنسية الراحلة والشهيرة حين قالت: "الشيخوخة لا تحمي من الحبّ، لكن الحبّ يحمي من الشيخوخة"، فحين ماتت "الحمامة" شعر بموت ما كان يحميه من افتراس الزهايمر الذي كان بادياً في عصبيته عبر ما تناقلته الأخبار والمقاطع حين ضرب مرة صحفية ألحت عليه بأخذ صورة له؛ ولم يكن الزهايمر حينها معلوماً لدى جمهوره، لكنه يفعل ذلك، حيث تبدو الأعراض في تقلب المزاج وعدم التحكم! حقاً "الحبّ كالموت يغير كل شيء" كما يقول جبران خليل جبران؛ وهذا ما فعله مع عمر الشريف؛ غير كل شيء في حياته وجعله أكثر سمواً ونقاء وتواضعاً وثقافة ونجومية أوصلته إلى العالمية؛ ثم من منّا لا يُمكن أن يحب حمامة الدراما "فاتن" لكن حبّ الشريف يذكرنا بأيامنا الحلوة زمان؛ قبل افتراس التقنية لاهتماماتنا، والتي حولت مشاعرنا إلى "افتراضية" بجانب الحياة المادية التي سجنت قلوبنا في حب مادي؛ كيف لا وهو الذي لم يحمل هاتفاً ذكياً ولم تغره الماديات رغم استطاعته تملكها.أخيراً؛ إن مات "عمر الشريف" فهناك شيء لم يمت وهو إنسانيته التي طغت في كل أدواره التي مثلها وحبّة المحترم للفاتنة الذي ظهر في احترامه لخصوصيتها بعد زواجها؛ فلم يكلمها لسنوات طويلة، كما نُشر في الصحف؛ لكن ذلك لم يمنعه من أن يستمر في حبه؛ فكم نحتاج أن نتعلم من عمر الشريف هذه العاطفة كي تعيد لنا أيامنا الحلوة، كما تعلمنا الثورة والإنسانية من أدواره .حليمة مظفر